و منذ بدايات العصر الحديث ،أخذت الرابطة الإسلامية تتراجع كشكل من أشكال ضمانات البناء السياسي القائم و تحصينه ، أمام ضربات الإستعمار الغربي الموجعة وتقطيعه لأجزاء عديدة من الخلافة العثمانية و سقوط البلاد العربية الواحدة تلو الأخرى في براثن الإستعمار الغربي المقيت بدءا بالجزائر عام 1830م و تونس عام 1881م و مصر عام 1882م ... بالإضافة إلى اشتداد السياسة الإستبدادية التي سلكها السلاطين العثمانيون المتأخرون ، كل هذه العوامل أدت إلى درجة قصوى من التخلف و الإنحطاط و الجهل ، فلم يعد هناك علماء و مفكرون إلا قليلون ، و قلت الرغبة في البحث و التنقيب عن الحقائق في مختلف الميادين العلمية و اللغوية و الحضارية ، لأن الدولة لا تشجعها ، فليس إلا ترديد بعض الكتب الفقهية و النحوية و الصرفية و نحوها ، حتى قال السائح الفرنسي "ميسيو فولني" الذي زار مصر و بلاد المشرق العربي و خاصة الشام : (إن الجهل في هذه البلاد عام شامل ، مثلها في ذلك مثل سائر البلاد التركية ، يشمل الجهل كل طبقاتها ، و يتجلى في كل جوانبها الثقافية ، من أدب و فن ...). هذا التراجع الحضاري نجم عنه ركود في كل الميادين العلمية و اللغوية، فبقدر ما كان المد الحضاري الإسلامي يتراجع كان اللسان العربي يتقلص، لأن الإسلام هو الذي حافظ عليها، و صانها، و رسم لها الحدود النهائية التي استمرت عليها حتى الآن.
إن هذا التهلهل الحضاري الذي أصاب الناطقين بالضاد استغله الجاهليون و الوثنيون الجدد ليطعنوا في لغة القرآن و يرمونها بالقصور حينا ، و بالجمود أحيانا أخرى ،
و بذلوا و يبذلون جهودا جبارة لمحاربة الفصحى ، و تحريك الأقلام المأجورة ضدها . لقد أدرك أعداء أمتنا الإرتباط الوثيق بين اللغة العربية و الدين الإسلامي و بين الدين الإسلامي و مجد و وحدة المسلمين ، فعملوا جاهدين على ترويج الدعاوي التي تتهم اللغة العربية الفصحى بالعقم و البداوة و ألقوا عليها مسؤولية تخلفنا رافعين شعار " من أراد التقدم و الرقي فلا يتكلم العربية "زاعمين بعدم استجابة الفصحى للحضارة الحديثة و أنها لا تستوعبها وهي عسيرة على من يتعلمها !؟
إن محاربة اللغة العربية الفصحى قد تشكلت في أشكال مختلفة وارتدت الأقنعة المتنوعة ، و تلونت بحسب الظرف الزماني و المكاني لأعداء أمتنا و لغتنا ، و إن اتفقت جميعها على استبدال اللغة العربية الفصحى بلغات المستعمرين أو باللهجات الدارجة للدول الناطقة بالضاد أو كتابة العربية بالحروف اللاتينية لمسخها و القضاء على صحة النطق بها ، أو تغيير الأساليب البيانية و البلاغية للغة الفصحى ...
فقد شنت فرنسا منذ احتلالها للجزائر يوم 5 جويلية 1830م حربا لا هوادة فيها ضد اللغة العربية ، فأغلقت المدارس التي كانت مزدهرة قبل الإحتلال ، ثم اعتبرت اللغة العربية أجنبية حرم استعمالها في مصالح الحكومة ، و كانت فرنسا تعاقب كل من ينشئ مدرسة لتعليم اللغة العربية . أما المدارس التي أنشأها الفرنسيون فكانت كلها مدارس فرنسية ، و كانت الجامعة الجزائرية التي أنشئت عام 1887جامعة فرنسية أيضا ، و لا يدخلها من الجزائريين إلا من تكون له حظوة لدى المحتلين . كما بذل الفرنسيون جهودا كبيرة و قاموا بأعمال مستمرة لتنصير بعض أبناء القرى الجزائرية ، و هدم المساجد و تحويلها إلى كنائس . و في يوم 8 مارس 1938م أصدر ميسيو " شوطان " الفرنسي قرارا يقضي باعتبار اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر ، و كان القرار – في حقيقته – امتدادا للقانون السابق صدوره في 24 ديسمبر 1904م ،
و الذي يمنع تعليم العربية في جميع مدارس الجزائر ...
و في مصر دعا اللورد " دفرين " البريطاني سنة 1883م إلى محاربة العربية
و الإهتمام باللهجات العامية ، و سار على نفس النهج " ولييم ديلكوكس " سنة 1892م ، و كان " ديلكوكس " هذا يعمل مهندسا للري في مصر ، فقام بترجمة الإنجيل إلى ما أسماه باللغة المصرية . و تبعه القاضي الإنكليزي "ولمور" الذي عاش في مصر و ألف سنة 1902م كتابا باسم ( لغة القاهرة ) واقترح فيه قواعد نصح باتخاذها للعلم و الأدب ، كما اقترح كتابتها بالحروف اللاتينية . و كان الهدف من بذل كل هذه المجهودات هو القضاء على لغة القرآن ، لغة الإسلام الوحيدة و تحقيق حلم " ولييم جيفور دبلجراف " الذي قال : ( متى توارى القرآن و مدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في قبول الحضارة المسيحية التي لم يبعده عنها إلا محمد و كتابه ) !؟
و على نفس هذا النسق سارت بقية الدول الإستعمارية الأخرى في مختلف البلاد العربية و الإسلامية ، ساعية جهدها إلى قبر اللغة العربية و من ثم قبر الهوية الإسلامية لشعوبنا . و واصل هذه المجهودات الإستعمارية الجبارة في وأد اللغة العربية مجموعة هامة من حلفاء الإستعمار و الذين باعوا أنفسهم للشيطان ضد مصالح أمتهم العربية و الإسلامية و على رأس هؤلاء و أخطرهم يأتي سلامة موسى في كتابه ( البلاغة العصرية و اللغة العربية ) فقد تناول هذا الأخير في كتابه مخطط الهجوم على اللغة العربية و انتقاصها و الدعوة إلى العامية لتكون مصدر البلاغة العصرية زاعما أن الفصحى لا تستطيع التعبير عما تستطيع العامية أن تعبر عنه . ؟! فدعا إلى الأسلوب التلغرافي و مهاجمة الأسلوب البياني ، و إلغاء الحرم و العرض من اللغة بدعوى أنه تراث لغوي قديم يحمل عقدة اجتماعية يجب أن نكافحها ، كما دعا إلى الكتابة بالحروف اللاتينية و إدخال الكلمات الأعجمية دون قيد ، و هو بهذه الدعوة أراد في الحقيقة أن يكون الأسلوب خاليا من الروعة و البراعة و الجمال و الموسيقى التي تميز اللغة العربية ، فلا يمتاز عن أسلوب الخطاب المعتاد المتداول في الشؤون اليومية ، متعمدا تجاهل أن الأديب شاعرا كان أو كاتبا ، إنما يفتن القلوب و يسحر العقول بألفاظه . و ليس اللفظ رمزا يشير إلى فكرة و معنى فحسب، بل هو مجموعة من صور و مشاعر أنتجتها التجربة الإنسانية و بثها اللفظ ، فزادت خصبا و حيوية ، فالألفاظ تصدر عن الأديب مشحونة بعواطفه و تجاربه و تحمل مكنونه الذي اختزنه على مر العصور في خصائصها و سماتها ، و الأسلوب التلغرافي الذي دعا إليه سلامة موسى لا يحقق شيئا من ذلك لأنه قائم على النفع وحده لا على الجمال . و لو أن الأسلوب لا قيمة له إلا أن يكون تلغرافيا يسفر بين الناس بالمنفعة وحدها ما حرص الأدباء على تجويد أساليبهم في اللغات كلها و لاستوت العبقرية و التفاهة ،
و القدرة و العجز ، بل هي مؤامرة على اللغة العربية لاجتثاثها من النفوس و إرباك عشاقها بتفاهات ما كان ينبغي أن تصدر عن الدكتور سلامة موسى الذي يدعي في العلم معرفة ؟! و يبقى أكبر دليل على كذب هذا الرجل ، و وهمه و خبث طويته ، أنه كان يدعو إلى العامية مستخدما في ذلك الفصحى ، يدعو إلى العامية وهو يتكلم الفصحى ... إنه لم يستطع أن يتخلص من لغة أمته الفصحى فكيف تعجز الفصحى عن التعبير عما زعم !!؟ و قد واصل مجهوده سعيد عقل اللبناني داعيا إلى استخدام اللهجة العامية و كتابتها بالحروف اللاتينية قائلا : "من أراد لغة القرآن فليذهب إلى أرض القرآن " . و رصد جوائز عديدة لمن يكتب ديوانا للشعر باللغة العامية ، و كتب ديوان ( يارا) بلغة عربية في أحرف لاتينية وهو (رجل حراس الأرز) الذين جعلوا شعارهم قتل الغرباء ( أي قتل المسلمين). و تقدم عبد العزيز فهمي عضو المجمع العلمي المصري سنة 1942م باقتراح يقضي باستبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية و شغل المجمع العلمي ببحث اقتراحه ثلاث سنوات. و لعل التاريخ لن ينسى مجرما لم يكتف بالدعوة إلى ذلك بل دخل بنفسه المدارس معلما الحروف الجديدة للمدرسين و الطلاب...؟! إنه ذلك اللقيط الذي حارب المسلمين و أسقط الخلافة الإسلامية ( كمال أتاتورك ).
و في سنة 1973م انعقد في لبنان مؤتمر ضم عددا من أساتذة الجامعات في أمريكا
و أوروبا و البلاد العربية و بحث فيه اقتراح فرنسي قدمه "جاك بيول " و "أندريه رومان "و " رولان مانييه " باستعمال اللهجات العامية الدارجة و ذلك بحجة أن الإستعمال هو السيد الذي يفرض نفسه !
و تنوعت دعاوي هؤلاء الإمعة و تبريراتهم ، فمنهم من حاول إقناع الجماهير بأن اصطناع اللغة العامية في الأدب و الصحافة إنما اعتراف بحق الجماهير في العلم
و التأثير فيه ، و منهم من زعم أن للعامية قدرة على الوفاء بحاجات البشرية و قدرة على التعبير عن مطالب الحياة العصرية ، و أنها وسيلة ميسرة لتثقيف الجماهير الشعبية و تقريب الثقافة منهم ...إلخ .
إن أية دعوة تحاول النيل من اللغة العربية في قليل أو كثير ، مهما لبست من أقنعة ، و زخرفت من قول إنما هي دعوة مسمومة مفضوحة يريد بها أصحابها أن يطفئوا نور الله ، و يخربوا هوية الأمة الإسلامية حتى يسهل لهم بعد ذلك تذويبها و تركيعها لأطروحاتهم المعادية لمصالح امتنا . إن هذه الدعوات المشبوهة تريد أن تطمس شخصيتنا و تميزنا الحضاري ، و تسعى إلى دمجنا و صهرنا إلى حد الذوبان في " الآخر العدو" لتحيلنا في النهاية إلى أذناب ليس لهم حول و لا قوة . و لكن هيهات ... هيهات !! فاللغة العربية خالدة، لأنها لغة القرآن، و القرآن خالد ما دامت السماوات
و الأرض ... يقول عز و جل: (( إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظن ) ) سورة الحجر الآية 9.
إن اللهجة العامية التي يريدها أعداء امتنا بديلا عن اللغة العربية الفصحى تمثل ألفاظا مهلهلة من لهجات تختلف من بلد إلى آخر كما تختلف في البلد الواحد باختلاف مناطقه و أجيال أبنائه، وهي فقيرة كل الفقر في مفرداتها ، مضطربة في قواعدها و أساليبها حتى أن العربي يخاطب أخاه على لسان غير مبين فلا يكاد يفهمه ، كما أنها لا تقوى على الشؤون الدقيقة و روح الإنسانية ، لان الفكر إذا لم تسعفه وسيلة قوية و أداة مواتية في التعبير عنه خمدت جذوته و ضعف شأنه و حينئذ يضيق نطاقه .
و هذا من شأنه أن يخمد الثقافة العربية الإسلامية و ينكص بها إلى الوراء . إن الدعوة إلى استعمال الدارجة و القائلة بتقريب الثقافة من الجمهور لهي دعوة كاذبة
و ساذجة ، إذ الأحسن من ذلك هو الإرتقاء بذوق القارئ ، و لا ننسى أنه بنفس هذا المنطق يمكن أن يروج للفن الهابط و الذوق السمج و الأخلاق الهابطة بدعوى أنها من "إبداع "الجماهير ، يقول العقاد : (( اللغة العامية لغة الجهل و الجهلاء و ليست بلغة الشعبيين ، و لا من يحبون الخير للشعوب ، لأن الغني الجاهل يتكلم العامية و لا يقرأ اللغة الفصحى و لا يمتاز بفهمها على الفقراء )).
أما الدعوة إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية ، فيعتبر مسخا لها و قضاء على صحة النطق بها. فعلى سبيل المثال يعبر بالحرف : D عن كل من حرفي الدال و الضاد مما يؤدي إلى الخلط بين حرفي الدال و الضاد و وضع كل منهما مكان الآخر .
و كذلك الحال بالنسبة للتعبير عن حرفي العين و الهمزة بالحرف اللاتيني A. كما يعبر عن حرفي الهاء و الحاء بالحرف اللاتيني h ، و قس على ذلك العديد من الحروف الأخرى .
لقد قامت فرنسا الإستعمارية برسم مشروع منفرد أطلق عليه مشروع الفرانكفونية يهدف إلى { فرنسة } كل دول إفريقيا و دول جنوبي شرق آسيا الفقيرة منها على الخصوص "فيتنام "مثلا ، و أوروبا الشرقية و بعض الدول الأمريكية انطلاقا من "كيبك "الكندية ، و هذا المشروع الفرانكفوني له عشرات الأنشطة و المؤسسات التي تخدمه . و يبقى الهدف الرئيسي لفرنسا الإستعمارية هو توطيد الفرنسية في المغرب العربي و شمال إفريقيا .. فماذا فعلنا نحن لمواجهة هذا الغزو الحضاري و حماية لغتنا من الإنحدار الرهيب الذي تعيشه لغتنا الوطنية حتى صارت غريبة بيننا ؟! إنه لشيء مخجل حقا أن نعلم أن كثيرا من الدول العربية تشارك في مؤتمرات القمم الفرانكفونية أو في إحدى المؤسسات الفرانكفونية (كتونس ، المغرب ، لبنان ...) مع العلم أن هذه الدول العربية ليست بدول فرانكفونية ،و إنما توجد بها أقلية فرانكفونية ، غالبا ما تكون من الطبقة الموسرة التي تسيطر على أغلب الوظائف العليا في الدولة . و نعود لنتساءل: ماذا يدفع هذه الدول إلى التهافت من أجل المشاركة في المؤسسات الفرانكفونية و الإصرار على الحديث بلغة من استعمرنا بالأمس القريب و أهلك حرثنا و نسلنا و يسعى جاهدا لقبر هويتنا العربية الإسلامية؟!
إن الجواب يكمن في أن الفرانكفوني العربي – رمز التخلف و الإنبتات الحضاري – عنده عقدة المتخلفين ألا وهي عقدة الشعور بالنقص. فعندما يتكلم اللغة الفرنسية يحس بأنه ترقى إلى أعلى مستويات التقدم الفكري بينما ينظر إلى اللغة العربية كأنها لغة المتخلفين و رعاع الناس ، و الحقيقة الساطعة تفند هذه المزاعم ، فلقد مثلت اللغة العربية و لا تزال لغة التقدم و الحضارة باستطاعتها أن تستوعب كل ما تنتجه الحضارة البشرية في مختلف الفنون و العلوم ، و قد برهنت على ذلك عندما نقل المسلمون فلسفة و علوم اليونان و الرومان و الفرس و الهنود ، و حولت كل ذلك إلى ثقافة واحدة ، وهي الثقافة الإسلامية . لقد دخلت في الإسلام شعوب و شعوب ، و لو قدر لهذه الشعوب جميعا أن تمتلك اللغة العربية ألسنتها كما امتلك الإسلام قلوبها ، لما كانت هناك اليوم مشكلة تواجه لغتنا رمز هويتنا و فكرنا و وحدتنا ، أما و قد انقسم المسلمون و أصبح كل حزب بما لديهم فرحين .. و سيطرت على كثير من الشعوب الإسلامية حالة "اللامسؤولية " تجاه اللغة العربية التي أصبحت بفضل القرآن لغة إسلامية عالمية ، واستغنوا عن القرآن بشروحه المترجمة ، القاصرة لطبيعتها البشرية .. و أنى لهذه الترجمات أن تنقل لأولئك إعجاز البيان القرآني ، بل إعجاز الفكر القرآني الذي لا يمكن أن تنقله كاملا ترجمة للنصوص و لا ترجمة لمعاني النصوص : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي و لو جئنا بمثله مددا ) سورة الكهف الآية 109.
إن السبيل الوحيد لبناء المسلم الحقيقي على الأرض في أي زمان و أي مكان هو إتقانه للغة الإسلام الوحيدة ، اللغة العربية ، لأن المسلم الذي لم يتمكن المسلمون المتأخرون من تبشيره بالعربية بعد أن بشروه بالإسلام لم يعد قادرا على أن يكون مسلما حقيقيا : مسلما يقرأ القرآن فيتدبره و يؤدي الصلاة فيخشع لمعانيها ، و يردد الأذكار و الأدعية فيطمئن قلبه لما فيها ... هذا المسلم لن يكون صورة حقيقية عن الإسلام لأن الإنفصال بين المسلم و العربية ينتج حتما الإنفصال بين المسلم و الإسلام القرآني الصحيح ، ذلك لان اللغة العربية وحدها استطاعت أن تعبر عن كلمات الله بدقة و إلا لما كان هناك داعيا لأن يختارها الله من بين جميع لغات العالم مؤكدا على قدرة اللغة العربية على الإبانة و التوضيح ( بلسان عربي مبين). لذلك تبقى اللغة العربية الوحيدة التي يمكن للمسلمين في جميع مشارق الأرض و مغاربها أن يجتمعوا عليها ، فيتناقلوا فيما بينهم مؤثراتها الفكرية و الجمالية .
لقد مثلت اللغة العربية و لا تزال لغة حضارة خالدة أولت الجانبين المادي و الروحي معا اهتمامها ، و حققت الإعتدال و الوسطية ، وهي ليست تلك اللغة اللاهوتية التي تحاط بهالة من التقديس تحجبها عن تلبية حياة المجتمع ، و تتركها قصية عن القيام بدورها في الحياة ، وهي ليست أيضا تطرح الدين جانبا لتنساق مع تيار يعجل بها إلى التذويب و فقد الهوية ، و أنى لها المقدرة على إبعاد الدين ، و إقصاء القرآن الكريم ، و التنكر لفكر المسلمين وهي التي استمدت من كل هذه الأسباب القوة و المنعة و طول العهد و العالمية . وهي ليست كذلك تلك اللغة المرتبطة بفترة زمنية قصيرة هدفها إشباع حاجات مادية أو علمية مؤقتة ، بل لقد عبرت اللغة العربية قديما و حديثا بحق و بصدق عن المفاهيم و المشاعر و المعاني التي توصل إليها المسلمون في مختلف ميادين الحياة و دروبها ، تقوى و تينع بقوة المسلمين و عزتهم و تضعف بضعف المسلمين و تخلفهم . فلا مجال لأن تتهم اللغة الفصحى بالعجز أو القصور بل الأصح أن نتهم نحن بالتخلي عن دورنا الحضاري في قيادة الشعوب و بلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا. ولنكن متأكدين أن اللغة العربية لن تضن علينا حينئذ بمفرداتها و تراكيبها و بلاغتها التي تؤدي بدقة عجيبة ما بلغناه من رقي حضاري و نماء ذوقي و اتساع معرفي و تمدن . فهي قد حوت واتسعت معاني القرآن المعجزة ، و نقلت لنا حضارة المسلمين في الطب و الهندسة و الجغرافيا و الحساب و التاريخ و التفسير و الشعر و الأدب و غيرها من العلوم و المعارف ، فكيف نقبل اتهامها اليوم بالعجز عن حمل المعارف العصرية و التعبير عنها و لا نتهم أنفسنا بالعجز و الكسل و التفريط فيمن جعلها الله لغة أهل الجنة في الجنة ؟! اللهم إلا أن تكون هذه اللغة الجميلة الجليلة قد استحيت من حمل تخلفنا و عجزنا و ركوننا إلى الذلة و المسكنة ، و قبولنا لأعداء الأمس و اليوم أن يكونوا علينا سادة و نجعل لهم علينا سلطانا مبينا بعدما كنا لهم قدوة و أسيادا ، و خير أمة أخرجت للناس .